في الأسبوع الماضي، أصدرت منظمة "هيومان رايتس ووتش" تقييماً حول الوضع في العراق بعد مغادرة القوات الأميركية والتركة التي خلفتها بعد ثماني سنوات قضتها في العراق، فجاء في التقييم أنه "رغم التطمينات المستمرة للحكومة الأميركية بأنها ساعدت في انبثاق ديمقراطية مستقرة في العراق، تبقى الحقيقة أنها خلفت وراءها دولة بوليسية في بداية تشكلها". وهو ما يحصل بالفعل على أرض الواقع، وربما يؤكده مثال يثبت هذا الانزلاق الخطير نحو الدولة البوليسية، ألا وهو إلقاء القبض على الدكتور رياض العضاض، الطبيب السني المعروف بمساعدته للفقراء، بتهم متعلقة بالإرهاب يصعب تصديقها. فرياض كان من السياسيين السنة الذين دافعوا عن الانخراط السلمي في الحياة السياسية إلى درجة جلبت له متاعب مع بعض أبناء طائفته الذين راحوا يهددونه لثنيه عن دعوته للمشاركة السياسية، لذا فكل من يعرفه يدرك أن التهم الموجهة له سياسية وليست جنائية أو قانونية. فقضية الدكتور رياض تندرج في إطار محاولات المالكي قمع السنّة وتهميش دورهم السياسي، بمن فيهم المسؤولون المنتخبون، بهدف احتكار السلطة والبقاء في الحكم. لكن هذا الطريق الذي اختاره المالكي محفوف بالمخاطر والفوضى والحرب الأهلية التي بدأت تطل برأسها مع طفرة العنف الأخيرة في المدن والبلدات العراقية. لكن رغم هذه المخاطر المحدقة بالعراق، لا يبدو أن الإدارة الأميركية مستعدة لاستخدام نفوذها لمنع تدهور الأوضاع، وتظل قصة الدكتور رياض العضاض وما تعرض له من تضييق واعتقال، المثال الأبرز على ما وصلت إليه الأمور، فقد كان أول لقاء لي معه في عام 2003 بمدينة دينفر الأميركية، عندما قدمه لي العقيد الأميركي "جو رايس" الذي كان على معرفة جيدة بهذا السياسي العراقي، لأنه عمل معه في العراق عندما ساهم في تأسيس المجالس المحلية ببغداد عقب سقوط النظام، وكان رياض وقتها منخرطاً في هذا الجهد، حيث اختار مسار المقاومة السياسية بدل رفع السلاح أو التحريض عليه. ورغم التهديدات التي كان يتلقاها من المتشددين الناقدين لعمله مع الأميركيين، فقد انضم إلى المجلس المحلي في الأعظمية، ثم ترشح وفاز بمقعد في المجلس المحلي لمدينة بغداد. وفي عام 2004 عندما زرته في عيادته المتواضعة بحي الأعظمية، وكانت تغص بالمرضى الفقراء الذين قدموا لتقلي العلاج مجاناً، قال لي: "البعض يتهمني بالتعاون مع الأميركيين، لكني أريد من الناس المشاركة في السياسية لأني أرغب في أن يكونوا مُمثلين في المؤسسات". وأضاف أنه يحثهم على عدم استهداف الأميركيين، لكن هذا التعاون لا يعني أنه لم ينتقد السياسات الأميركية التي كان يراها مجافية للصواب، والإشارة إلى فشل الأميركيين في استعادة الخدمات الأساسية وتعويض أهالي حيه عن الدمار الذي ألحقته الحرب ببيوتهم. وحتى عندما دعاه العقيد "رايس" لزيارة دينفر والاطلاع على تجربة المجالس المحلية الأميركية، تحدث الدكتور رياض عن التجاوزات الأميركية في "أبوغريب" قبل أن تندلع الفضيحة، وهي انتقادات أعطته مصداقية لدى العراقيين. فهل كان يتخيل العقيد "رايس" أن يساعد الدكتور رياض الإرهابيين؟ عندما طرحت السؤال على العسكري الأميركي كان الجواب بالنفي قائلاً: "ما عرفناه عنه أنه ينبذ العنف، وقد كان جزءاً من الحل في العراق وليس جزءاً من المشكلة". إذن لماذا اعتقلت حكومة المالكي رجلاً كان يعمل من داخل النظام ولا يسعى لتقويضه؟ هذا السؤال يقودنا إلى صلب المشكلة في العراق والمتمثلة في الانزلاق نحو الدولة البوليسية، فالغزو الأميركي للعراق قلب موازين القوى التي كان يسيطر فيها السنة على الحكم لعقود طويلة، لكن وحتى تنجح العملية الديمقراطية لابد من قبول الأغلبية الشيعية بدور سياسي للسنة طالما التزموا بقواعد اللعبة، غير أن ما يجري حالياً بعد انسحاب القوات الأميركية لا يبشر بخير، حيث سارعت حكومة المالكي إلى اعتقال البرلمانيين السنة والزج بهم في السجون، والأكثر من ذلك تواصل الحكومة رفضها تطبيق ما جاء في اتفاق تقاسم السلطة مع القائمة العراقية التي فازت بأغلبية مقاعد بسيطة في الانتخابات التشريعية الأخيرة. وهكذا بدأت الحكومة في ديسمبر الماضي ملاحقة نائب الرئيس السني، طارق الهاشمي، زعيم "الحزب الإسلامي العراقي" الذي ينتمي إليه الدكتور رياض، على خلفية تهم متعلقة بالإرهاب استُمدت من "اعترافات" حراسه الشخصيين الذين عُرضوا على التلفزيون، في مشهد يذكرنا بأيام صدام حسين. ورغم تدخل نائب الرئيس الأميركي بايدن لإخماد الأزمة السياسية الناشبة في العراق، تُواصل أميركا بيع طائرات F-16 والدبابات والعربات المصفحة للحكومة العراقية التي قد تستخدمها لتكريس الدولة البوليسية الجديدة. وإذا كان مفهوماً حرص واشنطن على دعم العراق عسكرياً حتى يصبح قوة موازنة لإيران، فإن المالكي نفسه يبدو أكثر ارتهاناً لإيران من خلال انقلابه على السنة واعتماده المستمر على طهران للبقاء في السلطة. لذا حان الوقت كي تعيد الولايات المتحدة التفكير تجاه المالكي وتستخدم نفوذها فيما يتعلق ببيع الأسلحة لإقناعه بانتهاج سياسية توافقية بدل السياسة الطائفية التي تهدد بخراب العراق، على أن تكون الإشارة الأولى لفهم المالكي الرسالةَ الأميركيةَ، إطلاق سراح الدكتور رياض العضاض. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنرتناشونال"